الأستاذ | فهمى هويدى
من مفارقات هذا الزمان أن ثورة 25 يناير جعلت العالم العربى أكثر
اهتماما بالحاصل فى مصر، فى حين أنها جعلت الشعب المصرى أكثر ابتعادا عن العالم
العربى وانصرافا إلى شأنه الخاص. وهو ما قد يغتبط له دعاة مصر المصرية، لكنه يحزن
أنصار مصر العربية الذين انتسب إليهم.
لقد أثار انتباهى ودهشتى خلال زياراتى لبعض الدول العربية واتصالاتى
المستمرة مع الأصدقاء والأشقاء العرب أنهم أصبحوا يتابعون بدقة أدق التفاصيل فى
مصر، لدرجة أننى شهدت جلسة فى مدينة جدة امتدت إلى منتصف الليل كان الموضوع
الأساسى فيها هو المادة 28 من الإعلان الدستورى الذى حصنت قرارات اللجنة العليا
للانتخابات. كنت المصرى الوحيد بين تسعة من السعوديين والعاشر كان سوريا، وخلال
الحديث اكتشفت أنهم لا يملّون من مطالعة الصحف المصرية فى الصباح، ويتابعون
البرامج الحوارية والتليفزيونية كل مساء، ويحفظون أسماء المشاركين ويتداولون
أفكارهم ويحاكمونها.
ولم يكن
ذلك أمرا استثنائيا، لأن المشهد تكرر فى بيروت ودبى وتونس والمغرب. وحينما تابعت
فى بغداد مؤتمر القمة العربى الأخير، استغربت حين وجدت من لقيتهم مهمومين بالحاصل
فى العراق حقا، لكن متابعتهم للشأن المصرى مستمرة ودقيقة.
فى مقابل
ذلك لاحظت أن الإعلام المصرى مستغرق إلى حد كبير فى الشأن الداخلى، وغير مكترث بما
يحدث فى العالم العربى، أدرى أن الأحداث المحلية مثيرة ولها إيقاعها المتسارع،
الذى لا يتيح للآلة الإعلامية المصرية أن تعطى الشأن العربى أو الأحداث الخارجية
حقها، لكننى أزعم أن ثمة أحداثا مهمة فى العالم العربى لا ينبغى أن تغيب عن إدراك
القارئ المصرى، وإذ أقر بأن الحاصل فى مصر يفرض نفسه على وسائل الإعلام بحيث يحتل
أولوية اهتماماتها، لكنى أفهم أنه فى هذه الحالة فإن الشأن العربى ينبغى أن يحتل
المرتبة التالية مباشرة، لا أن يرحل إلى الصحفات الداخلية، حيث الأخبار الأقل
أهمية. لقد دققت فى الصحف المصرية خلال الأسبوعين الأخيرين، ولاحظت أن الخبر
العربى اختفى من الصفحات الأولى، فى حين احتلت الصدارة أخبار محلية بسيطة، بعضها
عن أنشطة أحزاب ورقية لا وجود لها فى الشارع المصرى.
هذه الظاهرة
ليست جديدة تماما على الإعلام المصرى، لأن لها جذورا ممتدة إلى مرحلة غيبوبة
السياسة الخارجية المصرية، والخروج من الصف العربى منذ توقيع اتفاقية السلام مع
إسرائيل فى عام 1979. وهى الأجواء التى علا فيها صوت دعاة الانعزال وغيرهم من
المطبّعين والمتغربين، الذى روجوا لشعار «مصر أولا»، وجيلنا لا ينسى كيف قوبل
الغضب العربى إزاء توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، بهجوم مضاد من إعلام السادات
على العرب والعروبة، وكيف أن ارتماء الرئيس السابق فى أحضان الولايات المتحدة
وإسرائيل أضعف وشائج مصر العربية، ومن ثم كرس سياسة الانكفاء التى اقترنت
بالتغريب، وقيل لنا آنذاك أن مصر بهذه المواصفات صارت أحد أركان محور «الاعتدال»
فى المنطقة!
هذه الخلفية رتبت ثلاث نتائج سلبية، الأولى أنها أضعفت متابعة الإعلام
المصرى للساحة العربية، والثانية أنها شكلت لدى القارئ إدراكا محليا أفقده الحماس للشأن
العربى. النتيجة الثالثة تحولت إلى عنصر ضاغط على أمثالى من المهتمين بأحداث
العالم العربى، إذ صار الواحد منا مخيرا بين أن يستجيب لرغبة قارئه ويتجاوب
مع اهتمامه الداخلى، وبين أن يدعو القارئ إلى الاهتمام بالدائرة العربية الأوسع
وبجذبه خارج نطاق الدائرة المحلية. إن شئت فقل إنه خيار بين ما يقبل القارئ على
معرفته، وبين ما يجب عليه أن يعرفه.
إن
القارئ المصرى لم يعد مستوعبا تماما لما يحدث فى سوريا من مجازر بشعة وما يحيط
بالمشهد من تعقيدات فى الداخل، أو تداعيات له فى لبنان بل وفى المنطقة بأسرها،
سواء بالنسبة للعراق أو الأردن وتركيا المجاورة. ولا أظنه على إدراك كاف بالحاصل
فى العراق، بدءا بالتغول الإيرانى، أو الخلاف السنى الشيعى، أو الشيعى الشيعى، أو
العربى الكردى. ورغم كثرة الحديث عن الربيع العربى الذى فتن به الجميع وتفاءلوا،
إلا أن الساحة العربية لا تزال تموج بعوامل القلق والاضطراب فى ليبيا واليمن
والسودان والجزائر وفلسطين وموريتانيا وتونس. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن الخبر
العربى الوحيد المفرح الذى وقعت عليه فى الأسبوع الماضى كان دعوة رجال الأعمال
المصريين إلى إقامة منطقتى تجارة حرة وصناعة على الحدود الليبية، مع تدشين خط
للسكة الحديد فائق السرعة بين مصر وليبيا وتونس. وقد تمت المبادرة فى إطار المنظمة
العربية للتنمية الصناعية، وقدمت على هامش مؤتمر التعاون الصناعى المصرى التركى
الذى انعقد فى بنغازى. وهى الفكرة التى طالما تمنيت أن تنفذ أيضا مع السودان،
لإحياء المثلث الذهبى الذى كان ولا يزال حلما يراود دعاة التكامل العربى، الذى
يبدأ بمصر وجيرانها.
إن الحلم المصرى سيظل منقوصًا إذا لم يصبح جزءًا من الحلم العربى
الكبير.